الابحار في الماضي
من بحار الماضي
"هي تستعذب كتاباتي إذاً" .. قبضت على قلبي وعقلي معاً متلبسين بالهمس بها تحت جنح الغرور ..
أجبتها بدلع من يستشف الخبر اليقين : أدعي لي غاليتي لكي يزورني الوحي قريباً ..
فجاءني صوتها الذي أحب ، مرتدياً ثياب الثقة : سيزورك بلا شك .. إياك والتدثر بالصمت ضده ..
وطال بي الإنتظار دون جدوى .. ومرّت بي أسراب الخواطر ملقية السلام غير آبهة بالمكوث ..
ثم ما لبث أن أطلّ الحزن من النافذة مبتسماً .. أعرفها جيداً تلك الإبتسامة ..
فقد أحرقت قلبي أياماً طوال .. ومع ذلك لم أملك سوى الترحيب بالضيف ..
استقبلته وأكرمته ثلاث ليالٍ .. ثم أخليت سبيله وشرّعت أبواب الروح لمعانقة الشمس من جديد ..
وما هي إلا بضع رحلات في قطار الذكريات حتى وصلت إلى تلك المحطة ..
هناك حيث لا يسطع من الألوان إلا أنصعها ..
حيث لا يخفق من القلوب إلا أنقاها ..
ولا يغرد من العصافير إلا طيور الحب ..
ترجلت بتأنٍّ.. لا أملك من متاع الحاضر شيئاً ..
تركت نفسي للدرب تأخذني كيفما تشاء .. كنت متيقنة من نهايتها ..
لطالما رسمتها على الورق أيام طفولتي .. وكأن الدروب لا يمكن لها أن تنتهي بغير ذلك
الكوخ المحاط بأشجار الصنوبر ، المتكئ على سفح جبلٍ مكسوٍّ بأشجار التين والزيتون ..
وقفت في الباحة أتأمل وريقات عريشة العنب وهي تلبس رداءها الأخضر البراق ..
أحاول جاهدة اكتشاف طريقة لتسلّق ذلك الجذع الذي استعصى حتى على أكثر صبيان
حارتنا خفة ورشاقة .. ولكن تفكيري ما لبث أن تشتت أمام قوة جذبتني رغماً عني
إلى إحدى الزوايا حيث تغفو زهيرات البنفسج في حضن "الحاكورة" ..
كم اشتقت إلى تأمل يديّ جدتي وهي توسد لها التراب لتزهو بجلالة حزنها مع بدء أيام الربيع الدافئة ..
جدتي ! .. أين هي ؟ ..
ركضت مسرعة أطرق الباب المعتق برائحة السنديان ..
اندهها لتغمرني بدفء حنانها هامسة في أذني : يا مقصوفة العمر وين هالغيبة ؟ ..
فلم يأتني غير صوت ملائكي من المسجل الذي قطع وعداً على نفسه بالتأهب لإيقاظي
كلما هممت بالسفر في عالم الطفولة :
"ما في حدا لا تندهي ما في حدا .. عتم وطريق وطير طاير عالهدا ..
بابن مسكر والعشب مّلى الدراج .. شو قولكن صاروا صدى ؟؟ " ..
وعدت أدراجي إلى الحاضر مرددة قولاً مرّ كثيراً على مسمعي دون أن يأخذ مني إلتفاتة عمق :
"وتبقى الذكريات صدى السنين الحاكي " ...
أحبتي ..
ترى هل نملك القدرة على التحكم بذكرياتنا ..
أم هي التي تسيطر علينا وتفرض نفسها تبعاً للظروف؟
وما هي برأيكم أشد الذكريات حضوراً في البال : تلك التي حفرت جروحاً طمرها الزمن ..
أم ذكريات لحظات ضحكت فيها قلوبنا فأضفت على أرواحنا نشوة لا تمحى بفعل السنين ؟ ..
سلام الله عليكم